تشكل دولة إسرائيل منذ عام 1948 آلية عسكرية لديها دولة. الجيش وأجهزة الاستخبارات هي العمود الفقري الذي تنتظم هياكل الدولة المختلفة حوله، بما في ذلك الاقتصاد والمجتمع. وفقط في هذا الشكل تمّ تأسيس هذه الدولة. وكان السبب من تأسيسها هو لتكون بمثابة الحجر الأساسي وحجر الزاوية في النظام الإمبريالي في المشرق. وكل وجودها مبني على أن تكون حصنا مركزيا للحفاظ على مصالح الإمبريالية، وقوتها العسكرية هي السبب الوحيد لوجودها.
بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين ثاني 1917، وعندما كانت فلسطين لا تزال تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، قامت الإمبريالية البريطانية ببسط حمايتها على المشروع الصهيوني في فلسطين. وينص التصريح الواضح الذي تمّ إصداره في هذا التاريخ بأن بريطانيا سوف تقوم بدمج المشروع الصهيوني في استراتيجيتها السياسية، وذلك بعد قيامها باحتلال هذه المنطقة. وكان المشرق يمثل لبريطانيا طريقا ومعبرا للشرق، وذلك من الإمبراطورية الهندية "جوهرة" الاستعمار البريطاني وحتى مستعمراتها في الصين بما في ذلك هونغ كونغ. وكانت قناة السويس والبحر الأحمر في مركز الفضاء الإمبريالي، لأنه الطريق المؤدي إلى المستعمرات البريطانية في شرق أفريقيا المتواجدة على شواطئ المحيط الهندي.
بالإضافة إلى دعمها للصهيونية فقد قامت الإمبريالية البريطانية بتنظيم "الثورة العربية الكبرى" ضد العثمانيين، وكونت بذلك قوة عسكرية تمّ استخدامها كقوة مساعدة للقيام باحتلال المنطقة. وقد ضمن الاتفاق الذي عقد بين مكمهون (حاكم مصر) وفيصل (حاكم الحجاز) سيطرة الأخير على جزء كبيرا من المنطقة. وقد أصبحت العائلة الهاشمية دعامة أساسية ثانية في المبنى الذي شيدته بريطانيا في المنطقة. وفي وقت لاحق أصبحت سلالة الهاشميين في شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية) والمؤسسة الصهيونية حلفاء الاستراتيجيون.
حتى عام 1940 كان المشروع الصهيوني في فلسطين أداة للحكم الاستعماري. وقد عملت الميليشيا التي قامت بريطانيا بتأسيسها، ال"هاغاناه"، بالتعاون مع قوات الأمن التابعة لسلطة الانتداب. في عام 1936 اندلعت الثورة العربية في فلسطين والتي استمرت حتى عام 1939. وقد قام ضابط المخابرات البريطانية "فينغيت" بتأسيس مجموعة وحدات كوماندوز من أفراد ال"هاغاناه"، التي شُكلت لتكون بمثابة رأس الحربة في عملية قمع التمرد. وقد انبثقت عن "كتائب الليل" التابعة ل "فينغيت" القوة الضاربة التابعة للميليشيات الصهيونية، ألا وهي ال"بالماخ". وكانت الشركات التي قامت المنظمة الصهيونية بإنشائها سلاحا مهما في كسر الإضراب العام.
خلال فترة الحرب العالمية الثانية وضعت قيادة المستعمرات الصهيونية نفسها تحت تصرف جهود الحرب الإمبريالية البريطانية، حيث قامت بحشد وتجنيد قوات ودمجها في الجيش البريطاني ("اللواء اليهودي"). كذلك قامت هذه القيادة بإرسال عدد من الأشخاص المدربين لأغراض التجسس وبإنزالهم بالمظلات في أوروبا المحتلة. في الوقت نفسه قام الجناح المنشق عن ال"هاغاناه" الصهيونية، "ليحي"، بالتواصل مع القوة الإمبريالية الثانية، ألا وهي ألمانيا التي كانت تحت الحكم النازي. أما المنظمة المنشقة الثانية، ألا وهي "أيتسيل"، فقد حاولت مبكرا، وذلك في سنوات الثلاثينات، التواصل مع الإمبريالية المعارضة الأخرى، وهي إيطاليا التي كان يسيطر عليها النظام الفاشي.
لقد حول التدريب والتأهيل العسكري الذي تلقاه جنود المستعمرات الصهيونية وضباطهم منذ بداية عام 1936 وخلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك الخبرة العملية التي اكتسبها هؤلاء تحت القيادة البريطانية ميليشيا ال"هاغاناه"، إلى قوة عسكرية ذات مزايا وتفوق استراتيجي وتكتيكي في المنطقة. في حرب عام 1948 كان لمليشيا ال"هاغاناه" تفوق عددي في الأفراد سواء على مجموعات المقاومة الفلسطينية أم على جيوش الدول العربية.
اقتصاد المستعمرات الصهيونية ("يشوف")
قامت المؤسسة الصهيونية بإنشاء اقتصاد مغلق ومنع الشركات التابعة لها من التعامل مع السكان الفلسطينيين. وقد أدى هذا الاقتصاد المغلق، والذي كان يتمّ دعمه وتمويله من قبل مصادر وجهات مالية خارجية ضخمة نسبيا، إلى منع وتأخر قيام طبقة برجوازية صغيرة وطبقة برجوازية فلسطينية، بحيث أنه لم يكن باستطاعة المعامل والمتاجر الفلسطينية منافسة الشركات التابعة للمستوطنات الصهيونية.
تحت شعار "فداء الأرض" قامت المؤسسات المالية التابعة للمنظمة الصهيونية، والتي كانت تتلقى الدعم المالي من أرباب رؤوس أموال في الخارج مؤيدون للمشروع الصهيوني، بشراء الأراضي في فلسطين وذلك من الأفنديين الذين كانوا مُلاك لهذه الأراضي من الناحية القانونية والذين كانوا في العادة يقومون بجباية الضرائب من الفلاحين سكان القرى. وقد قامت الشرطة التابعة لسلطات الانتداب البريطاني بطرد هؤلاء الفلاحين من قراهم وتهجيرهم من الأراضي التي كانوا يفلحونها. وقد قامت قيادة الحركة الصهيونية بتصفية وإبادة طبقة الفلاحين الفلسطينية بكل الوسائل وبشكل منهجي. وهكذا تمّ وعلى مدى 45 عام القيام بتنفيذ التطهير العرقي الأول في البلاد. وقد التحق وانضم الفلاحين الذين هُجروا من قراهم وفقدوا أراضيهم في كثير من الأحيان إلى المقاومين (أو إلى "العصابات"، كما كان يسميها الحكم البريطاني والقيادة الصهيونية).
تحت شعار "العمل العبري" (=اليهودي) المتبع من قبل "اتحاد العمال اليهود"، -الذي كان بدوره يتنكر في زي "جمعية مهنية" لكنه في الحقيقة كان يخدم سياسة التطهير العرقي-، تمّ طرد العمال الفلسطينيين من وظائفهم. وقد سعى قادة ال"هستدروت" لدى سلطات الانتداب البريطاني من اجل حثها على توظيف اليهود فقط من قبل هذه السلطات، على سبيل المثال في مجال تعبيد الطرق وبماء السكك الحديدية. مع اندلاع الإضراب العام ضد الانتداب البريطاني في عام 1936 وخلال الثلاث سنوات لاستمراره قامت ال"هستدروت" بتوفير خدمات لتقويض الإضراب، حيث قامت بتجنيد عمال يهود ووضعهم تحت تصرف السلطات لغرض استبدال العمال الفلسطينيين المضربين. وبهذا فقد هؤلاء أماكن عملهم. ومن بين أمور كثيرة فقد تمّ تشييد ميناء تل أبيب من قبل البريطانيين والمنظمات الصهيونية ليحل محل ميناء يافا المُضرب. وقد أدى الإبعاد المنهجي للعمال المحليين من أماكن عملهم إلى تقويض نشوء طبقة عمال فلسطينية. وبذلك فقد تمّ عرقلة النضال الوطني التحرري للشعب الفلسطيني الذي كان من الممكن أن تقوم به الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي كان بإمكانها قيادة هذا الشعب إلى الاستقلال والسيادة الوطنية.
قرار تقسيم البلاد الصادر عن الأمم المتحدة
في عام 1945 وعام 1946 وُقعت اتفاقيات يالطا وبوتسدام بين القوى الإمبريالية، إلا وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من جهة وبين البيروقراطية الحاكمة في الكرملين. وقد تمّ في هذه الاتفاقيات توزيع مناطق السيطرة في العالم مع تجاهل تام لإرادة الشعوب. وكان قرار تقسيم فلسطين الصادر بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين ثاني 1947 مرحلة وخطوة أخرى في عملية تنفيذ التحالف بين الإمبريالية والبيروقراطية الستالينية. ولم يقم هذا القرار بأخذ طموحات وتطلعات سكان البلاد بعين الاعتبار والذين كانوا في غالبيتهم الساحقة (الثلثين) يعارضونه بشدة، وإنما فقط مصالح الدول العظمى.
لقد كانت النكبة نتيجة مأساوية وحتمية لقرار التقسيم. إلغاء هذا القرار ونتائجه هي المهمة الأكثر أهمية للجماهير في المنطقة.
يجب التذكير بأن البيروقراطية الستالينية كانت القوة الرئيسية في عملية صنع قرار التقسيم. وقد عبّر خطاب غروميكو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التضامن الكامل مع أهداف الصهيونية في فلسطين. والاتحاد السوفييتي كان أيضا أول دولة تعترف بإسرائيل وقام بتسليحها وكان أيضا، ولمرة أخرى، الدولة الأولى التي دعمت قبول إسرائيل كعضو في الأمم المتحدة.
لقد قامت "عصبة التحرير الوطني"، الفصيل العربي للحزب "الشيوعي" الفلسطيني، بين عشية وضحاها بالتنكر لبرنامجه السياسي الداعي إلى إقامة "دولة ثنائية القومية" في فلسطين، وذلك بعد الأمر الذي تلقاه من موسكو بهذا الخصوص. وقد صرح عن تأييده لتقسيم فلسطين وإقامة "الدولة يهودية"(!). وخلال حرب عام 1948، في حين أن أعضاء الفصيل اليهودي في الحزب الشيوعي الفلسطيني كانوا يقاتلون في الجيش الإسرائيلي، كان أعضاء الفصيل العربي جواسيس ومخربين في خدمة"جيش الدفاع الإسرائيلي".
لقد قبلت إسرائيل كعضو في الأمم المتحدة على الرغم من انتهاكها الصارخ لقرار الأمم المتحدة بخصوص تقسيم فلسطين، والذي سمح بإنشاء غير شرعي لهذه الدولة من البداية، حيث أنها استولت على مناطق غير مخصصة لها في هذا القرار، كما أنها قامت بالتطهير العرقي ورفضت عودة اللاجئين إلى ديارهم في نهاية الحرب.
لقد نص قرار التقسيم على إقامة "دولة عربية" على 45% من مساحة فلسطين – من أجل 66% من السكان؛ وإقامة دولة يهودية على 55% من هذه المساحة – من اجل 33% من السكان. بدأت النكبة الفلسطينية مباشرة مع قرار الأمم المتحدة. فقط جزء صغير من المواطنين غادروا المنطقة التي كان من المفترض إعطاؤه " للدولة اليهودية "، والمعظم والغالبية تمّ طردهم.
بعد نهاية الانتداب ورحيل القوات البريطانية من البلاد دخلت جيوش الدول العربية المجاورة البلاد. وكان الهدف من ذلك هو الاستيلاء على المناطق المحددة " للدولة العربية "، ومنع قيام دولة فلسطينية، حتى لو كانت هذه الدولة لا تتعدى رسما كاريكاتوريا. كان هناك خطر من أن قيام دولة عربية فلسطينية سيوحي للجماهير بضرورة إقامة دولة حقيقية تتطابق حدودها مع حدود البلاد. هذه الدولة كان من شأنها تقويض كامل البنية التي وضعتها الإمبريالية في المنطقة والتي كانت الأنظمة العربية (في غالبها ملكية) جزء لا يتجزأ منها.
دخل الجيش المصري إلى البلاد وبدأ في السيطرة على الجزء الجنوبي الغربي من فلسطين، الذي كانت غزة تشكل المدينة الرئيسية فيه. تولى الجيش الأردني ("الفيلق العربي" بقيادة الضابط البريطاني المعروف غلوب باشا) السيطرة على الضفة الغربية وكان الجيش السوري على وشك الاستيلاء على الجليل. أما قوات المقاومة الفلسطينية فقد تمّ هزمها قبل ذلك.
منذ عام 1946 قام الملك عبد الله الأول، ملك شرق الأردن، بأجراء محادثات سرية مع ممثلي القيادة الصهيونية (في البداية مع الياهو ساسون، ثم مع غولدا مأيرسون (مأير). وفي هذه المفاوضات تمّ الاتفاق على مبادئ التسوية الخاصة بتقسيم فلسطين بعد نهاية الحرب التي ستنشب. مقابل الحصول على الاعتراف من القيادة الصهيونية (في وقت لاحق، من الحكومة الإسرائيلية) بضم الضفة الغربية لمملكة شرق الأردن قام الملك عبد الله بالاعتراف بسيطرة إسرائيل على بقية البلاد، بما في ذلك على منطقة المثلث الصغير الواقع في الضفة الغربية.
وكما قيل سالفا فقد كان للجيش الإسرائيلي تفوق عددي على جيوش الدول العربية. كما كان لديه تفوق في نوعية القوات والقيادة، التي تمّ تدريبها من قبل الجيش البريطاني، وتفوق واضح لنوعية وكمية المعدات القتالية. الكرملين، الذي كان يتضامن مع المشروع الصهيوني وموال له، قدم لمنظمة ال"هاغاناه" عن طريق تشيكوسلوفاكيا الأسلحة والطائرات والذخيرة.
تشكل دولة إسرائيل منذ عام 1948 آلية عسكرية لديها دولة. الجيش وأجهزة الاستخبارات هي العمود الفقري الذي تنتظم حوله هياكل الدولة المختلفة، بما في ذلك الاقتصاد والمجتمع. وفقط في هذا الشكل تمّ تأسيس هذه الدولة. وكان السبب من تأسيسها هو لتكون بمثابة الحجر الأساسي وحجر الزاوية في النظام الإمبريالي في المشرق. وكل وجودها مبني على أن تكون حصنا مركزيا للحفاظ على مصالح الإمبريالية، وقوتها العسكرية هي السبب الوحيد لوجودها.
الإمبريالية والصهيونية: لا تتطابق المصالح دائما مع بعضها البعض
بعد الحرب العالمية الثانية فقدت الإمبريالية البريطانية عظمتها ولم تعد قادرة على أن تتحمل عبء السيطرة المباشرة على المستعمرات في جميع أنحاء العالم. وفي عام 1946 أعطت بريطانيا الهند استقلالها، وخلال 5-6 سنوات قامت بعمل نفس الشيء في شرق وغرب أفريقيا. وحلت محلها الإمبريالية الأمريكية، التي كانت الرابح الأكبر في معسكر"الحلفاء"، حيث قامت ببسط نفوذها على هذه المناطق. وطبقا للنمط الأمريكي، فان السيطرة على هذه المناطق تكون سيطرة اقتصادية، مع حكومات تحت إشراف وثيق لواشنطن. أيضا في المشرق تمّ تغيير الأسياد لصالح الإمبريالية الأمريكية. كذلك كان الأمر في فلسطين، إذ انتقلت دولة إسرائيل إلى مجال نفوذ الولايات المتحدة.
دوافع الولايات المتحدة للسيطرة على الشرق الأوسط كانت مختلفة عن تلك التي كانت لدى بريطانيا. فقد كان الاهتمام والقلق البريطاني يتمثل في تأمين الممر البحري عبر قناة السويس والبحر الأحمر، الذي كان يربط بين المركز الواقع في الغرب والمستعمرات في شرق أفريقيا وأفغانستان والهند (والتي شملت آنذاك أيضا الباكستان وبنجلاديش) وبورما وماليزيا وسيلان (سريلنكا) والجيوب في الصين. النظام الذي قامت بريطانيا بوضعه في المشرق كان هدفه الحفاظ على "الطريق إلى الهند ".
لقد كانت هنالك ثلاث أسباب رئيسية أخرى لسيطرة الولايات المتحدة على المنطقة. السبب الأول: ملء الفراغ الذي ولده تراجع بريطانيا في خارطة النظام الإمبريالي العالمي. إذ أن الجماهير في المنطقة كانت تطمح إلى الاستيلاء على السلطة بالرغم من استياء الولايات المتحدة التي كانت تشعر بأنها مضطرة إلى منع إمكانية حدوث عملية من هذا القبيل. السبب الثاني: السيطرة على المنطقة كانت تهدف إلى الضغط على الدولة السوفييتية في إطار النظام الذي تمّ وضعه في اتفاقيات يالطا وبوتسدام. وبالطبع فإن السبب الثالث هو المهم والمعروف: واقع وجود معظم احتياط النفط في العالم في المشرق.
ومن قبيل المقارنة فإن الاستعمار البريطاني الكلاسيكي كان يعتمد على استيراد المواد الخام من المستعمرات وتصدير المنتجات المصنعة إلى المستعمرات. وقد كان هذا النظام مناسبا وملائما للمرحلة المبكرة من النظام الرأسمالي الذي كان يسود فيه رأس المال الصناعي. وفي المرحلة اللاحقة من الإمبريالية فان رأس المال المالي هو الذي يلعب الدور الأساسي والمهيمن في الأسلوب الاستعماري. الاستثمارات تنتج أرباحا طائلة من خلال إنتاج النفط من قبل الشركات التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية وتصديره إلى جميع أنحاء العالم. وعندما تمّ تعريف المشرق على انه منطقة تكمن وظيفتها في إنتاج النفط للإمبريالية الأمريكية العالمية وللعالم، فقد تمّ إعطاء النظام الصهيوني دور الحفاظ على الإنتاج المنتظم لهذا النفط لصالح رأس المال المالي الأمريكي والعالمي.
إن حالة الدولة الصهيونية هي فريدة من نوعها. فقد كان اعتمادها على الإمبريالية البريطانية بصورة مطلقة وكاملة. من دون جذور في المنطقة والبلاد ومع قيادة ومؤسسة تتألف من المهاجرين القادمين من قارات أخرى، فقد كان كل وجود الكيان الصهيوني معلقا في الخيط ألشوكي الذي كان يوصله بالدولة الاستعمارية العظمى. هذا الاتصال المباشر والمطلق وغير القابل للتغيير، انتقل وبطبيعة الحال إلى القوة العظمى الجديدة التي فرضت سيطرتها على المنطقة. في إطار الهيكل الجديد للنظام الإمبريالي، تمّ إناطة الدور نفسه لإسرائيل، الذي ورد ذكره في الفصل السابق: حجر الأساس والزاوية الذي تقوم الأنظمة العربية بحماية وجوده والإبقاء على أسسه. من دون حجر الأساس والزاوية هذا فان هنالك خطر بان ينهار النظام الإمبريالي.
هذا هو السبب الذي من أجله تقوم الإمبريالية الأمريكية بتغذية إسرائيل وبتقديم المساعدات السخية لها وبحمايتها في كل وضع من الممكن أن ينشأ في المنطقة. هذا لا يعني بان دفاع واشنطن عن إسرائيل من دون قيود. الإمبريالية تعطي الحماية في إطار تدابير التوازن العام لمصالحها في المشرق. وسيكون محور نظام التوازن الخاص بالإمبريالية دائما الحفاظ على النظام المعادي والمضاد للثورات الذي قامت بوضعه وبنائه والذي تمثل فيه إسرائيل المحور المركزي، ولكن فقط ومجرد جزء رئيسي. إذ انه من الممنوع أن تؤدي تصرفات إسرائيل إلى زعزعة هذا النظام. هذا هو التوازن الذي تحرص الإمبريالية العالمية على الحفاظ عليه.
يحصل النظام الصهيوني في كل عام على 3 مليارات دولار من واشنطن. معظم هذا المبلغ المالي لا يصل إلى هنا على الإطلاق. انه يُسخر للمشتريات العسكرية الإسرائيلية لدى مصانع الأسلحة والطيران في الولايات المتحدة ولتسديد الديون المصرفية المستحقة على إسرائيل في هذا البلد لاستكمال تمويل المشتريات في السنوات السابقة. ويقدم جزء صغير من التمويل الأمريكي للصناعة العسكرية الإسرائيلية. للتمويل الأمريكي آثار وعواقب حاسمة ومصيرية: أنه يربط الجيش الإسرائيلي بالولايات المتحدة ويرسخ تبعية النظام الصهيوني للإمبريالية المتحكمة في العالم فيما يتعلق بالنشر الاستراتيجي لهذه الإمبريالية في المنطقة. باختصار، هذه هي آلية أخرى تفرض على النظام الصهيوني – والذي يشكل الجيش جوهره - أن يكون سجين لا يساوره التشكيك في النظام الإمبريالي في المشرق. وسيكون بمثابة نقطة جذب لكراهية الجماهير في جميع أنحاء المنطقة.
الحفاظ على الاستقرار المُستمد من النظام السائد والمرتكز عليه هي الأولوية الأولى والاعتبار الأعلى في أنشطة الولايات المتحدة. الأعداء المباشرين لهذا النظام هم الجماهير التي تقوض هذا الاستقرار من خلال نضالها من أجل الحرية والاستقلال والديموقراطية ومن أجل نظام تسود فيه المساواة ولا يكون فيه مزيد من الاستغلال والقهر.
ليس للنظام الصهيوني يد حرة في التعامل مع الأمور، فهو يخضع للقيود المتواجدة في الإطار الذي فرض عليه وأملى له، ويجب أن يطيع وان يمتنع عن أية أفعال من شأنها أن تقوض استقرار النظام الإمبريالي. على سبيل المثال، فقد أمرت واشنطن إسرائيل في نوفمبر/تشرين ثاني 1956 بالانسحاب من شبه جزيرة سيناء – على الرغم من الأوهام بخصوص "مملكة إسرائيل الثالثة." . لقد قام الجيش الإسرائيلي بالانسحاب خلال ليلة واحده. في عام 1973، أجبر الأمريكيون إسرائيل على عدم تدمير وسحق الجيش الثالث المصري في سيناء، الذي كان محاصرا والتوقيع على اتفاقية لوقف إطلاق النار، في الوقت الذي يبدو أن إسرائيل كان لديها ميزة عسكرية. إملاء أمريكي أجبر حكومة بيغن في عام 1978 على توقيع اتفاقية إخلاء ثاني لسيناء والجلاء عنها. في عام 1993، وبهدف كسر الانتفاضة الأولى، أرغم الرئيس الأمريكي كلينتون إسرائيل على التوقيع على اتفاقية إنشاء "السلطة الفلسطينية" في جزء من أراضي ال67، على الرغم من سياستها القديمة والتي دامت لأعوام طويلة. وفي عام 2005، وبغرض كسر الانتفاضة الثانية، أمر الرئيس بوش الحكومة الإسرائيلية بالانسحاب من قطاع غزة.
جميع هذه الإملاءات كانت تهدف إلى وقف التدهور الخطير الذي بدا وكأنه يهدد النظام القائم، وكذلك إلى الحفاظ على المصالح الأساسية للنظام الصهيوني في إطار النظام القائم الذي يحميه.
الحركة الوطنية الفلسطينية
مع تأسيس حركة فتح في عام 1959 وتحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى منظمة حقيقية تتضامن معها الجماهير، بدأ فصل جديد في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية. طوال هذه الفترة، تحررت هذه الحركة من براثن الأنظمة العربية، وانتقلت إلى طريق الاستقلال السياسي في إطار العلاقة مع الأنظمة العربية. لكن الضغوط الخارجية، وخاصة تلك التي أتت من جانب الإمبريالية الأمريكية، أدّت إلى إضعاف وتدهور القيادة. أحداث أيلول الأسود في الأردن (1970) أدّت إلى تشتيت قوات منظمة التحرير الفلسطينية في جميع أنحاء المغرب والمشرق والى فقدان القاعدة الشعبية لمنظمة التحرير الفلسطينية. الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وسيطرة إسرائيل على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين فتحت الطريق لأعمال القتل الجماعي. طرد وإجلاء القيادة الفلسطينية إلى تونس لسنوات عديدة بعد اجتياح لبنان جعل القدرة على المقاومة تتآكل تماما، الأمر الذي أدى بها إلى الاعتراف بتقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين ثاني 1988.
تمّ تمهيد الطريق إلى اتفاقيات أوسلو – واشنطن (سبتمبر/أيلول1993). الهدف والقصد منها كان خنق الانتفاضة الشاملة الأولى. حتى الآن – يوليو/حزيران 2011 – لم يتمّ تنفيذ بنود هذه الاتفاقيات. وفي هذه الأيام تقوم إسرائيل بالتهديدب "إلغاء" هذه الاتفاقيات بسبب المصالحة بين قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقيادة حماس في غزة.
حتى يومنا هذا: البرنامج الوحيد الذي من الممكن أن يكون قاعدة من أجل الوصول حل لمشاكل هذه البلاد هو إقامة جمهورية علمانية وديمقراطية في كل فلسطين التاريخية، بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بلادهم وقراهم ومدنهم.
من أجل جمعية تأسيسية ديمقراطية وذات سيادة لكل فلسطين
قام النظام الصهيوني بإنشاء ما يسمى ب " الكنيست " وهي شكل منحط وهزيل من أشكال البرلمان. لا يمكن أن يتمّ انتخاب أشخاص ل" الكنيست " إلا أولائك الذين يقسمون بالولاء لمبادئ النظام الصهيوني. بالتالي فإنها لا تمثل مصالح الفلسطينيين الذين من المفترض أن يكونوا مواطنين في دولة إسرائيل. علاوة على ذلك فانه لا يمكن لسكان المناطق التي تمّ احتلالها في عام 1967 أن يشاركوا في انتخابات الكنيست أو أن يُرشحوا ويُنتخبوا إليها، على الرغم من انه يتمّ تطبيق جميع أحكام الكنيست وقوانينها عليهم وبالرغم من أن الحكومة المنتخبة من الكنيست تحدد مصيرهم وقدرهم في كل يوم وفي كل ساعة من حياتهم. وجود الكنيست الإسرائيلية ووجود الحكومة المُنتخبة من قبلها هي تذكير دائم بالحرمان من الحقوق الأساسية لسكان المناطق المحتلة في عام 67. هذه هي نفس الكنيست التي تنفي باستمرار حقوق اللاجئين وذريتهم الذين تم ترحيلهم من البلاد.
يجب أن يتمّ حلّ الكنيست وتشكيل جمعية تأسيسية يتمّ انتخابها والترشُح إليها من قبل كل سكان البلاد واللاجئين الذين غادروها. وتقوم هذه الجمعية بوضع مسألة إطار وقواعد الدولة على جدول أعمالها من أجل أن يتمّ وضع الأسس والقواعد لحل محنة فلسطين. وبهذا ينتهي تقسيم البلاد، الذي يشكل مصدر المآسي المستمرة حتى هذا اليوم. وهكذا يتمّ وضع إطار لجمهورية ديمقراطية وعلمانية في كل البلاد.
الجمهورية الديمقراطية معناها المساواة المطلقة بين جميع المواطنين والمواطنات في جميع مجالات حقوق المواطن وحقوق الإنسان؛ المساواة بين جميع اللغات وإرضاء جميع احتياجاتهن الثقافية والتربوية؛ احترام جميع الحريات العامة، حرية التعبير والتجمع والتنظيم.
دستور الجمهورية، الذي يتمّ وضعه من قبل الجمعية التأسيسية، يتضمن وثيقة الحقوق المدنية والحريات الفردية.
الجمهورية العلمانية هو ذلك النظام السياسي الذي لا يعرف المواطنون - المواطنات وفقا لانتماءاتهم/ن العرقية-الطائفية. الدولة تقيم وتأسس مع مواطنيها ومواطناتها علاقة مباشرة من دون وساطة على أساس طائفي. المؤسسات الطائفية، والتي يمكن للمواطنين الانضمام والانتساب إليها، يجب أن تقوم على أساس طوعي فقط وان لا تكون جزءا من نظام الدولة.
يجب فصل الدين عن الدولة والحالة المدنية. وينبغي للمؤسسات الدينية، أيا كانت، أن لا تتلقى أي تمويل من الدولة. ويجب على المؤسسات التعليمية التي تشكل جزءا من التعليم الإلزامي أن تكون تابعة للدولة فقط، وأن لا يتم فيها أي وعظ ديني. وفي هذا المعنى، يجب أن يكون التعليم علماني. أما خارج إطار التعليم الإلزامي، فان الطوائف على مختلف أنواعها تملك الحرية في إقامة أطُر ومؤسسات طوعية خاصة بها تقوم هي بوحدها بتمويلها. المبدأ الثابت يجب أن يكون: للتعليم العام – أموال عامة، للتعليم الخاص – أموال خاصة.
يتمّ في الجمهورية العلمانية والديمقراطية تطبيق هذا المبدأ في جميع مجالات الحياة الاجتماعية. الدين والطائفية ليست سوى شأن خاص بالفرد، ويتمّ تمويل المؤسسات الدينية فقط من قبل المجموعات الدينية والمؤمنين بها.
الفصل بين الدين والدولة والحالة المدنية هي التي تضمن المساواة بين المواطنين.
تأسيس الجمهورية العلمانية والديمقراطية في كل فلسطين التاريخية هو هدف وغرض فعّال يتعارض ويتناقض مع شعار "الدولتين"، الذي لا يُمثل إلا مجرد عودة إلى قرار التقسيم الذي جلب المصائب وتكرار له. الجمهورية العلمانية والديمقراطية تتعارض وتتناقض أيضا مع شعار "الدولة ثنائية القومية" أو "الدولة المشتركة" التي لا تشكل سوى نسخة أخرى من حل "الدولتين" . كل هذه الشعارات تبرر وتكرّس تصنيف وتقسيم المواطنين وفقا لمجموعات وطوائف عرقية ودينية. أن هذا تعريف وتصنيف غير ديمقراطي للمواطنة يهدف إلى وضع أسس وقواعد لإحلال وتكريس عدم المساواة.
النضال من أجل عقد الجمعية التأسيسية الديمقراطية وذات السيادة نحو تأسيس الجمهورية العلمانية والديمقراطية، يخلق محتوى حي وفرصة حقيقية من أجل الوصول إلى وحدة الشعب الفلسطيني ولصالح علاقاته التاريخية مع أرض فلسطين ولصالح تحقيق أهداف تحرير جميع أبناء الشعب الفلسطيني: العودة والحرية والمساواة وتقرير المصير من خلال رفض الاعتماد على الإمبريالية والارتباط بها.
تقوم الجمهورية العلمانية والديمقراطية بتحرير الوجود اليهودي في فلسطين من الطابع الاستعماري المرتبط ببرنامج الصهيونية العنصري، التي لا توجد لديها نية وغرض إلا أن تكون الذراع الطويل لتنفيذ الخطة الإمبريالية في المنطقة.
من وجهة وزاوية نظر الطبقة العاملة: إنشاء وتأسيس نقابة مستقلة وديمقراطية
في عام 1920 أسست المنظمة الصهيونية ما يُسمّى ب"الاتحاد العام للعمال العبرانيين [أي اليهود] في بلاد إسرائيل". في عام 1995 تم تغيير الاسم إلى " الاتحاد العام للعمال في إسرائيل". الاسم التاريخي لهذه الهيئة يدل على الطبيعة العنصرية لها. لا يمكن للعمال أن يشكلوا طبقة مضادة للبرجوازية ونظامها الرأسمالي إلا كفئة موحدة بعيدة عن الانشقاقات الذي يحاول نظام الاستغلال والاضطهاد إحداثها في طبقة العمال. إنشاء هيئة، التي ترفع على رايتها شعار يضع جزء من العمال ضد جزء آخر، يخدم بصورة مباشرة مصالح العدو الطبقي المشترك. الانقسام والانشقاق بين العمال يسبب ويقود بصورة حتمية إلى الاعتماد العضوي على هذا العدو، و"الهستدروت" هي هيئة وكائن يعمل في خدمة هذا العدو.
الصراع الطبقي، الذي يدور يوميا، ومدى وبُعد تطور الطبقة العاملة المنظمة في فلسطين يتطلبان إنشاء نقابة تكون موحدة ومستقلة. الوحدة هي شرط أساسي لاستقلالها، والاستقلال هو شرط أساسي من أجل الوحدة. هدف وغاية الوحدة هو أن تقوم هذه النقابة بتنظيم أعضائها على أساس المساواة الكاملة بينهم وان تقوم برفض واستبعاد أي احتمال لأي تقسيم على أساس عرقي-ديني أو. أي أساس آخر. التضامن الكامل والحقيقي هو شرط أساسي لنجاح النضال.
الاستقلال يعني أن النقابة لا تخضع إلا إلى إرادة أعضائها والى مصالحهم ومصالح كل الطبقة العاملة.
التنظيم المستقل للطبقة العاملة في البلاد هو هدف وغاية صعبة جدا، وذلك بسبب الشروط والظروف التي تمّ خلقها وإنشاؤها من قبل نظام الاستغلال والقهر الصهيوني، الذي جلب الانحلال والتفكك إلى داخل الطبقة العاملة. لكن تنظيم من هذا القبيل سوف يسمح بوضع الطبقة العاملة في مكانها المناسب في إطار النضال العام من أجل التحرر الوطني في فلسطين.